الثلاثاء، 4 أغسطس 2009

تعقيباً على رد نذير الحموي على الشيخ الزحيلي حول فصل الدين عن الدولة:
قرأنا، باهتمام بالغ، رد الكاتب نزير الحموي على الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي، المنشور في جريدة «تحولات» الغراء (العدد 10 ـ نيسان 2006)، فكانت لنا وجهات نظر تخالف (بل تناقض) ما ذهب إليه الكاتب، ونعرضها عنا، باختصار لأبرزها، تحت عناوين ثلاثة:
1 ـ في مفهوم الإسلام.
2 ـ في علاقة الإسلام بالسياسة.
3 ـ في تهافت الفصل بين الدين والدولة.
1 ـ في مفهوم الإسلام:
يقول الكاتب: «إن الدين عند الله الإسلام. والإسلام هو صفة الدين الإلهي من آدم إلى ظهور المهدي، وآدم أعلن أنه من المسلمين، وإبراهيم وفرعون وهو في حالة الغرق نادى بأنه من المسلمين أتباع موسى، فالإسلام هو العموم والرسالة المحمدية هي إحدى هذه الرسائل». ولنا عند هذه الأقوال وقفتان..
* الوقفة الأولى ( حول آدم والمهدي): إن قول الكاتب: «الإسلام هو صفة الدين الإلهي من آدم إلى ظهور المهدي» يحيلنا إلى واحد من معنيين اثنين لا ثالث لهما.. المعنى الأول هو أن آدم والمهدي نبيان، وهو معنى مرفوض، لأنه إذا كان آدم نبياً (لقوله تعالى في سورية البقرة/ 31: {وعلم آدم الأسماء كلها}. وقوله تعالى في سورية آل عمران/ 33: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}، فإن المهدي (الذي يقول الشيعة بظهوره في آخر الزمان) ليس بنبي، ولا حتى عند الشيعة أنفسهم، وإنما هو ولي. والمعنى الثاني هو أن آدم «أول البشرية» والمهدي «آخر البشرية»، وهذا المعنى مرفوض أيضاً، لأنه لا دليل على أن خلق البشر سينتهي بظهور المهدي.
* الوقفة الثانية (حول مفهوم الإسلام): عندما يقول الكاتب إن «الإسلام هو صفة الدين الإلهي»، وإن «الإسلام هو العموم والرسالة المحمدية هي إحدى هذه الرسائل»، فإنه لا يقدم مفهوماً للإسلام علمياً أو إجرائياً يمكن اعتماده أساساً للحوار (والمفهوم هو جملة الصفات التي تكفي لتعريب لفظ ما ـ د. مراد وهبة، المعجم الفلسفي، ص417)، ويكون مثله كمثل الذي «فسر الماء بعد الجهد بالماء»! وفي ظننا أن المتفق عليه عند علماء المسلمين، هو أن للإسلام في الاصطلاح معنيين اثنين.. فالإسلام بالمعنى الواسع هو إسلام الوجه لله تعالى، أو هو، حسب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى. (الملا علي القاري، شرح الفقه الأكبر، ص19). والإسلام بالمعنى الضيق هو الرسالة الخاتمة التي حملها النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، والتي هي في الممارسة منظومة من ثلاثة عناصر أو مقومات.. أولها العقيدة (ومضمونها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر من الله تعالى ـ حديث رواه مسلم وآخرون)، وثانيها العبادات الشعائرية (كالصلاة والصوم والحج) وثالثها المعاملات، التي هي التطبيق العملي والكاشف للإيمان من حيث وجوده أو عدمه، وهي المنهج الإلهي الذي يوجه سلوك البشر (أفراداً وجماعات ومجتمعات) تجاه الذات والآخرين والطبيعة، ويتضمن: التكاليف الشرعية (وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام)، والأحكام العملية (مثل: للذكر مثل حظ الانثيين في مسألة البنوة عند التوريث)، والقيم الاجتماعية (كالشورى في الحكم، والصدق في المعاملة، والسماحة الفكرية والدينية، واحترام العلم والعلماء والعمل والعمال).
2 ـ في علاقة الإسلام بالسياسة:
يقول الكاتب: «الإسلام كدين يحدد علاقاتنا بالخالق والنفس والمجتمع. وهذا قول صحيح وحقيقي ولا غبار عليه، ولكن ما علاقة الدولة والسياسة بذلك؟». ومن الواضح أن سؤال الكاتب هنا «سؤال استنكاري»، وسنجتهد للإجابة عنه فيما يلي، مبتدئين بتحديد مفهومي الدولة والسياسة..
إن الدولة هي منظومة من خمسة عناصر أو مقومات.. مجموعة بشرية (أو مجتمع)، وأرض تسكنها المجموعة، وسلطة توجه المجموعة ويكون لها الحق في أن تكون أوامرها نواهيها مطاعة من قبل المجموعة، ونظام اقتصادي واجتماعي تلتزم به السلطة والمجموعة، واعتراف دولي بكيان الدولة وسيادتها. وعادة ما يميز بين «الدولة» و«الحكومة»، على أن الأولى هي مجموعة المؤسسات أو السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) المسؤولة عن صنع القرارات السياسية وفرضها والفصل في المنازعات حولها. أما الثانية (وهي الحكومة) فيه ثلة من البشر المسؤولية في تلك المؤسسات الثلاث بشكل عام، أو في المؤسسة التنفيذية بشكل خاص.
أما عن السياسة، فيقول المفكر الدكتور عبد الكريم غلاب: «لقد أصبحت السياسة تتناول كل ما يتعلق بحكم الدولة، أو إدارة الشؤون العامة الداخلية منها والخارجية، والعلاقات المتبادلة بين الدول، والعلاقات بين السلطة والمواطنين. وتؤكد بعض المصادر أنها نابعة من حكم الدولة، ودراسة المبادئ التي تقوم عليها الحكومات والتي تحدد علاقاتها بالمواطنين وبالدول الأخرى. ولذلك، فالعمل السياسي يتصف بوظائف الحكم أو القيادة أو التنظيم أو التشريع أو التنفيذ أو التقرير». (د. غلاب، أزمة المفاهيم وانحراف التفكير، ص91). والسياسة، حسب موسوعة الهلال الاشتراكية، هي: «علم الحكومة وفن الحكم، وتطلق أيضاً على مجموعة الشؤون التي تهم الدولة، كما تطلق كذلك على الطريقة التي يسلكها الحاكمون». (انظر ص264 من الموسوعة). والسياسة هي، أيضاً، العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي فن تحريك البشر والأشياء، وهي كل قول أو فعل يراد به تغيير شيء ما في الحياة العامة أو المجتمع، وهي إدارة الشؤون الداخلية والخارجية للمجتمع من قبل قوة حاكمة، وهي كذلك تدير شؤون الدولة. ويمكن أن نخلص من ذلك كله إلى أن السياسة هي: عملية (أو عمليات) توجيه موارد الدولة (وبما في ذلك البشر)، من قبل قوة حاكمة نحو تحقيق أهداف الدولة أو المجتمع. (انظر دراستنا: قراءة في فقه العلاقات بين الثقافة والسياسة والاقتصاد، مجلة «المعرفة»، دمشق، شباط 2002، ص83 ـ 104).
وحيث إن الإسلام (وكما ذكرنا في البند الأول أعلاه) هو في التطبيق العملي مجموعة التكاليف والأحكام والقيم التي توجه سلوك البشر أفراداً وجماعات ومجتمعات، فإن الإسلام في المجتمع الإسلامي (أو الدولة الإسلامية) هو النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تلتزم به الحكومة (والمحكومون بطبيعة الحال)، فكان أن قرر العلماء المسلمون الذين كتبوا في الشؤون السياسية (ومنهم الماوردي وابن خلدون في مقدمته)، أن وظيفة الحاكم هي: «حراسة الدين وسياسة الدنيا به». وهذا يعني الالتزام بما جاء في الفقه الإسلامي تحت باب «السياسة الشرعية» التي هي: حسب الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي «السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته»، فهي «شرعية المنطلقات، وشرعية الغايات، وشرعية المناهج». (د. القرضاوي، السياسة الشرعية، ص27).
ويلاحظ أن كثيراً من المستشرقين (أيضاً) يقررون وجود علاقة وثيقة بين الإسلام والسياسة، ونثبت فيما يلي بعضاً مما يقوله في ذلك ثلاثة من المستشرقين المرموقين..
* يقول المستشرق جوزيف شاخت: «من أعم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر، قانونه الديني الذي يسمى «بالشريعة». والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون (...) إن الشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية، كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية (بالمعنى المحدود)، وعلى تفاصيل آداب الطهارة وصور التحية وآداب الأكل وعيادة المرضى (شاخت وبوزورث، تراث الإسلام، ترجمة د. حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، ج2، ص143).
* ويقول المستشرق برنار لويس: «لقد نادى مؤسس المسيحية أتباعه أن «أعطوا ما لقيصر لقصير وما لله لله». أما مؤسس الإسلام فقد جعل من نفسه «قسطنطين».. ففي حياته أصبح المسلمون جماعة سياسية ودينية كان الرسول سيدها المطلق.. يحكم أرضاً وشعباً، ويقضي بين الناس، ويجمع الضرائب، ويقود الجيوش، ويسيّر الدبلوماسية، ويخوض الحرب. ولقد كانت الخلافة نظام حكم حدده الإسلام، وحل الدين مكان القرابة كأساس للهوية الجماعية والولاء، كما حل محل العرف أو أقره بوصفه قانون الجماعة». (ذكره: د. محمد عماره، الإسلام في عيون غربية، ص184 و185).
* ويقول المستشرق مارسيل بوازار: «ومن المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأوروبي الحديث، سواء في مصدريهما المتخالفين أو في أهدافهما النهائية.. فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو إرادة الشعب، وهدفه النظام والعدل داخل المجتمع. أما في الإسلام، فالقانون صادر عن الله، وبناءً عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب إلى الله، باحترام الوحي والتقيد به. فالسلطة في الإسلام تفرض عدداً من المعايير الأخلاقية، بينما تسمح في الطابع الغربي أن يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم». (ذكره: د. عمارة، المرجع السابق، ص190).
وهكذا، فالسياسة ركن ركين في نظام الإسلام، والإسلام يكون سياسياً أو لا يكون، ولكن العلمانيين يحرّمون على الدين الاشتغال بالسياسة، ويفرضون عليه الإقامة الجبرية في المنازل والمعابد فحسب!!!
ومن الطريف أن الكاتب (الحموي) نفسه كان قد قرر (وربما دون أن يدري، وفي تناقض صارخ مع سؤاله الاستنكاري!) مصداقية العلاقة بين الإسلام والسياسة، عندما سلم بصحة القول بأن «الإسلام كدين يحدد علاقاتنا بالخالق والنفس والمجتمع»، علماً أن المعادل الموضوعي لهذا التحديد الذي يقصده المؤلف هو: «تديين السياسة»، أو «أسلحة السياسة»، أو «تنفيذ السياسة الشرعية»!!!
3 ـ في تهافت الفصل بين الدين والدولة:
يقول الكاتب: «ففصل الدين عن الدولة، مسيحياً كان أو محمدياً، يعني تشريف الدين ورفعه عن مماحكات السياسة وإخراجه من مأزق الأممية التي لابد أن تتصادم مع الآخرين». ونحن، إذ نتحفظ على قول الكاتب بوجود دين محمدي (لأنه لا وجود لشيء إسمه «الدين المحمدي»، وإنما يوجد دين تواضع الناس منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وحتى تاريخه على تسميته «الدين الإسلامي» أو «الإسلام اختصاراً»، فإننا نرى في دعوة الكاتب (ضمناً) إلى فصل الدين عن الدولة تجاهلاً لثلاث حقائق على الأقل صارخة..
* الحقيقة الأولى: إذا كان في «الإسلام» عنصر تطبيقي هو «المعاملات» لتوجيه سلوك البشر على مختلف المستويات، فإنه لا وجود لهذا العنصر في «المسيحية» التي يقتصر الأمر فيها على بعض الوصايا (مثل: لا تزن، لا تسرق)، ويقول في ذلك المستشار طارق البشري: «إن ثمة فارقاً بين الإسلام والمسيحية بما من شأنه أن يغاير بين وظيفة العلمنة في كل. إن العقيدة المسيحية في صفائها الأول تبتعد عن السياسة وتترك ما لقيصر لقيصر، بينما الإسلام في صفائه الأول كذلك يتصل بشؤون الدنيا وينظم بمبادئه علاقاتها.. ففي العلمانية نوع من العودة إلى جوهر المسيحية في إيمان المسيحي، ولكن فيها على العكس نوعاً من الأفقاد لبعض جوهر الإسلام في يقين المسلم. ولم تنظم المسيحية شرائع للمجتمع، بينما نظمها الإسلام، أو وضع في مصادره الأولى بعض أصول هذا التنظيم، وانبنى تراث الفكر الإسلامي من بعد بهذه الأصول». (البشري، بين الإسلام والعروبة، ص54) وهذا يعني أن العلمانية (بما هي فصل للدين عن الدولة أو السياسة) تتفق مع المسيحية، ولكنها لا تتفق مع الإسلام، خاصة وأنها تقضي على الجانب التطبيقي من جوهر الإسلام وهو عنصر «المعاملات». ويتضح، بذلك، أن فصل الدين عن الدولة لا يعني: «تشريف الدين» كما يرى الكاتب، ولكنه يعني «تدمير الدين»، وبامتياز!!!
* الحقيقة الثانية: إن السياسة ليست دائماً مماحكات وأحابيل، وبالتالي فإنها ليست دائماً مرفوضة، لأن للسياسة نوعين اثنين.. «سياسة مرفوضة» هي السياسة الماكيافيلية وجوهرها تحقيق «الأهداف النبيلة» بكل الوسائل الممكنة حتى ولو كانت دنيئة، وكما هو الحال في معظم دول العالم هذه الأيام (وانظر مثلاً إلى الاحتلال في العراق والتعذيب في غوانتانامو). وهناك «سياسة مفروضة» وجوهرها تحقيق الأهداف النبيلة بالوسائل النبيلة أيضاً، تطبيقاً للمنهج الإلهي أحكاماً وتكاليف وقيماً، وكما كان الحال (مثلاً) أيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
* الحقيقة الثالثة: إن الأممية لا تقع بالضرورة في مأزق التصادم مع الآخرين.. ذلك أن الأممية التي تقع في ذلك المأزق هي (فقط) الأممية القائمة على الاستغلال والهيمنة، وهي التي تتجسد هذه الأيام فيما يسمى «العولمة». وهناك في المقابل أممية لا تقع في مأزق التصادم مع الآخرين، وهي«الإسلام».. إذ يقول الله تعالى في سورة الأنبياء/ 107: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ويقول أيضاً في سورة البقرة/ 256: {لا إكراه في الدين}. وصدق الله العظيم.

عبد الوهاب المصري
باحث اقتصادي واجتماعي
ومهتم بالقضايا الفكرية والثقافية.



مرهق جداااااااااااااااااااا
تعبت نفسي أرجع كفاية